Saturday, July 26, 2014

صر اع مع البيئة والحياة والاحتلال


غزة: مصنع  ينتج اناس من نوع اخر  ..

بقلم حسام عزالدين:
حينما كنا في  سجون الاحتلال في النقب  ابان الانتفاضة الاولى في العام 1987، كانت المرة الاولى التي اعيش فيها عن قرب  مع اناس من قطاع غزة، اشاركهم النهار بأكمله، المأكل والغناء والضحك والنقاش ، وكان اسرى غزة يتميزون عن اسرى الضفة بانهم لا يؤمنون قطعا بالوسائل الدبلوماسية لتحقيق مطالب الاسرى ، كالإضراب عن الطعام مثلا، او ارجاع وجبة، حتى ان  احد الاسرى من قطاع غزة لا زلت اذكر ما قاله، لكن ذاكرتي  خانتني في اسمه، حينما كنا نعد لترجيع وجبة طعام،  بان قال " سجن وقلة اكل والله حرام" ثم قال " انا على استعداد لضرب ضابط العدد على ان اضرب عن الطعام".
ساد تحدي بين هذا الشاب وشاب اخر،  ان كان على استعداد ان يضرب ضابط العدد، غير ان الشاب الغزاوي بالفعل قام عند العدد ولكم الضابط في وجه، ومن ثم نقلوه الى زنزانة انفرادية.



ولم يحظ  الشعب الفلسطيني اصلا طيلة حياته برابط جغرافي يمزج بين ثقافة اهل غزة واهل الضفة، الامر الذي ولد طبيعتين مختلفتين من البشر، وان كانت القدس وفلسطين توحدهم عبر الخطاب السياسي، ونتحدث باستحياء عن ضفاوي وغزاوي ، لكن حقيقة  ان هناك ثقافة غزاوي وثقافة ضفاوي سواء قبلنا بذلك ام لم نقبل.
فالظروف التي تعيشها غزة انتجت اناس من نوع اخر، اناس  يعيشون القهر والظلم ورداءة البيئة هناك، وحصار خانق، ومستوى متردي من  البنى التحتية للغالبية العظمى، ولد اناس مستعدون لعمل أي شيء لقاء البحث عن حياة افضل، لذلك قلت قبل عشر سنوات ولا زلت اقول بان ظاهرة حفر  الانفاق هي اعظم ظاهرة انسانية في التاريخ، كونها  تعبر عن رغبة بشر في تخطي ظلم الحصار عبر الحفر في الارض للخروج من تحت اعين من فرض عليهم الحصار، والانفاق هي ظاهرة الانتصار على البيئة وعلى كل شيء.
وعند الحديث عن الانقسام السياسي، فان كافة التحليلات العلمية تقول بان السياسة تكونها مسلكيات ثقافية واجتماعية وبيئية، لذلك فان الانقسام السياسي اصلا لم يكن في منتصف العام 2007 كما يتخيل البعض، بل ان البعد الجغرافي بين رئتي الوطني ولد انقساما تاريخيا في طريقة التفكير السياسي على مختلف الأصعدة، وليس بين حركتي فتح وحماس او بين الفصائل السياسية جميعها.
في العام 1996، حينما تشكل اول مجلس تشريعي فلسطيني، جميع اعضائه من حركة فتح، فقد شابهه نوع من الانقسام، وبكل صراحه انقسام بين ضفاوي وغزاوي سببه بالأساس ان هناك بيئتين مختلفتين في التفكير والسلوك ناجم عن تنشئة في بيئتين مختلفتين، وشهد المجلس حينها، وكوني عملت على تغطية جلساته بشكل دوري،  تكتلات في التصويت بين ضفاوي وغزاوي رغم ان جميع اعضاء المجلس من حركة فتح.
لا اعتقد ان المستوى السياسي الفلسطيني، وحتى المستويات السياسية الاقليمية والدولية، وحتى الاحتلال الاسرائيلي  نفسه قد حسب حساب تلك البيئة القاهرة التي يعيشها هل غزة، والتي لا تولد الا اناس لا  تهمهم حياتهم بقدر ما يهمهم تغيير هذا الواقع الذي يعيشونه منذ عقود.
ان رداءة العيش والظلم والقهر الذي يعيشه اهل غزة، صحيح انه كان هناك من يعلن معاناته فوق الارض عبر شاشات التلفاز او عبر ممثلي الامم المتحدة، لكن لم يحسب احد ان هناك  في غزة من ادار ظهره للحديث عن معاناته  للعالم الغير مبالي، وذهب للبحث عن حياة اخرى تحت الارض، وهؤلاء هم الذين يتحدون اليوم اعتى قوات مسلحة في  منطقة الشرق الاوسط.
ولأجل ذلك كله، باعتقادي ان كافة المحللين من خارج غزة، سواء الفلسطينيين او غير الفلسطينيين، قادرين، او لديهم الحق في التحليل او التعقيب او معارضة او تاييد ما يجري في قطاع غزة،  لان اهل غزة هم الاكثر معرفة، وهم من دفع ولا زال يدفع ثمن هذه العيشة التي يعيشونها هناك، سواء قهر البيئة او قهر الحصار.
ودليل ذلك، فقد تتبعت استبيان متلفز بين اهالي غزة عن قصة وقف اطلاق النار، والغالبية كانت تقول لا نريد وقف اطلاق نار طالما حياتنا لن تتغير ، ولا نريد حربا كل عامين ونعود كما كنا ...
هذه هي غزة، صراع مع بيئة صراع مع حياة ويأتي الاحتلال ليحاول ابقائهم في هذه البيئة، واعتقد انهم لن يقبلون هذه المرة بذلك، واما محاولات البعض في  التحليل والربط المعقد للآمور ، فكلها محاولات استغلال للظهور و تشتيت لفهم حقيقة ما يجري في غزة.
فلنترك الشهداء ينامون بسلام، وان لا نستغل دمائهم للتغني بأنفسنا، لان هناك كثيرون من الذين يعيشون ترف العيش يحاولون استغلال كل ما يجري في غزة وكأنهم هم من يعمل هناك، ولنترك من يعيش تحت الارض هناك  ليعمل كما يرى، ولندعو له بان يرى الضوء الذي يبحث عنه في اخر النفق.









No comments: